العمل بالقرآن الكريم بين الترغيب والترهيب
العمل بالقرآن الكريم بين الترغيب والترهيب .
====================
وفيه أربعة مباحث:
أولاً : اقتضاء العلم للعمل .
ثانياً : وجوب العمل بالقرآن الكريم .
ثالثاً : الترغيب في العمل بالقرآن الكريم .
رابعاً : الترهيب من هجر العمل بالقرآن الكريم .
أولاً : اقتضاء العلم للعمل
"""""""""""""""
اعلم -رحمك الله- أن طلب العلم مما تتنوع فيه الأغراض، وتختلف فيه المقاصد والنيات، كما أنه وسيلة من الوسائل التي يتوصل بها الإنسان إلى الأهداف والغايات، فمن الناس مَنْ يطلب العلم لغرض دنيوي، وذلك بأن يكون له به جاه وهيبة، وشرف ومكانة، ومنزلة وكرامة، ومنهم من يبتغي به الرياسة والقيادة، والهيمنة والزعامة، ومنهم مَنْ يتوصل به إلى أغراض دنيئة ، ومقاصد خسيسة، كحب السيطرة والاستبداد، والجدل والمباهاة والمماراة. وأسعد الناس بالعلم، وأحسنهم حظاً وأزكاهم، وأشرفهم منزلة عند الله من يطلبه لمرضاة الله، والعمل به، والاهتداء بنوره، والامتثال لأمره.
عن إياس بن عامر قال: أخذ علي بن أبي طالب بيدي، ثم قال: (إنك إن بقيت، سيقرأ القرآن ثلاثة أصناف: فصنف لله، وصنف للجدال، وصنف للدنيا، ومَنْ طلب به أدرك)( رواه الدارمي (2/526) . وهو ضعيف فيه إياس بن عامر ليس بالمعروف . راجع أخلاق حملة القرآن للآجري ص (41) تحقيق فواز أحمد زمرلي ، طبعة دار الكتاب العربي .)
فالمقصود الأعظم من العلم ليس أن يتزين به الإنسان، ولا أن يتشرف بتحصيله وجمعه، ودراسته وروايته، وتحقيقه ونشره من غير أن يكون له رغبة في العمل به، والالتزام بمقتضاه.
ولقد ورد في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (69) سورة العنكبوت.
قال عباس الهمداني أبو أحمد - رحمه الله - :والذين يعملون بما يعلمون نهديهم الله لما لا يعلمون
قال عمر بن عبدالعزيز :إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا ، قال الله تعالى : {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ }(282) سورة البقرة (تفسير ابن كثير (3/559) .).
قال عمر بن عبدالعزيز :إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا ، ولو عملنا ببعض ما علمنا لأورثنا علماً لا تقوم به أبداننا ، قال الله تعالى : {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ }(282) سورة البقرة (تفسير القرطبي (13/324) .) .
عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :» لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسْألَ عن أربع : عن عمره فيمَ أفناه ، وعن علمه ماذا عمل به ، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه ، وعن شبابه فيمَ أبلاه «((حديث صحيح) رواه الترمذي، والدارمي، والطبراني في الكبير، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.) .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لا يغرنكم مَنْ قرأ القرآن ، فإنما هو كلام يتكلم به ، ولكن انظروا من يعمل به )( صحيح الترغيب والترهيب ص ( 58 ) .) .
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال( هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل ).
قال معاذ بن جبل رضى الله عنه ( اعلموا ما شئتم أن تعلموا ، فلن يأجركم الله بعلمه حتى تعملوا ) .
قال الخطيب البغدادي - رحمه الله - :ثم إني موصيك يا طالب العلم! بإخلاص النية في طلبه ، وإجهاد النفس على العمل بموجبه ، فإن العلم شجرة ، والعمل ثمرة ، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً .
وقيل :العلم والد ، والعمل مولود ، والعلم مع العمل ، والرواية مع الدراية ، فلا تأنس بالعمل وما دمت مستوحشاً من العلم ، ولا تأنس بالعلم مادمت مقصراً في العمل ، ولكن اجمع بينهما وإن قلَّ نصيبك منهما .
والعلم يراد للعمل ، كما العمل يراد للنجاة ، فإذا كان العمل قاصراً عن العلم ، كان العلم كلاًّ على العالِم ، ونعوذ بالله من علم عاد كلاًّ ، وأورث ذلاً ، وصار في رقبة صاحبه غِلاً .
قال بعض الحكماء : العلم خادم العمل ، والعمل غاية العلم ، فلولا العمل لم يطلب علم ، ولولا العلم لم يطلب عمل ، ولأن أدع الحق جهلاً به ، أحب إليَّ من أدعه زهداً فيه .
وقال بعضهم :وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما، وهل المغرم بحبها إلا كتاركهما، وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها، كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها، وراعى واجباتها، فلينظر امرؤٌ لنفسه، وليغتنم وقته، فإن الثواء (ثوى : المكان ، و- به يثوي ثِواءٌ وثُويّاً ، بالضم ، وأثوى به : أطال الإقامة به ، أو نزل . راجع القاموس المحيط للفيروز آبادي ص (1268) طبعة مؤسسة الرسالة .) قليل، والرحيل قريب، والطريق مخوف، والاغترار غالب، والخطر عظيم، والناقد بصير، والله تعالى بالمرصاد، وإليه المرجع والمعاد{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}(7_ سورة الزلزلة .
قال سهل بن عبدالله التستري – رحمه الله - :
( الناس كلهم سكارى إلا العلماء، والعلماء كلهم حيارى إلا من عمل بعلمه).
قال أبوعبدالله الروزباري - رحمه الله - :
( العلم موقوف على العمل ، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله - عز وجل - ) .
وقد أحسن القائل :
يا أيها الرجل المُعلم غيره.... هلاَّ لنفسك كان ذا التعليم
لاتنه عن خُلُق وتأتي مثله.... عارٌ عليك إذا فعلت عظيم
وابدأ بنفسك فانهها عن غيها.... فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك تقبل إن وعظت ويقتدي... بالقول منك وينفع التعليم
تصف الدواء لذي السقام من الضنا.... كيما يصح به وأنت سقيم
وأراك تلقح بالرشاد عقولنا.... نصحاً وأنت من الرشاد عديم
وقال عبدالملك بن إدريس الوزير الكاتب :
والعلم ليس بنافع أربابه.... مالم يفد عملاً وحسن تبصر
سيَّان عندي علم من لم يستفد.... عملاً به وصلاة من لم يطهر
فاعمل بعلمك توف نفسك وزنها.... لا ترض بالتضييع وزن المخسر
وأنشد محمد بن علي الأصبهاني لبعضهم :
اعمل بعلمك أيها الرجل... لا ينفع العلم إن لم يحسن العمل
والعلم زين وتقوى الله زينته.... والمتقون لهم في علمهم شغل
وحجة الله يا ذا العلم بالغة.... لا العلم ينفع فيها لا ولا الحيل
تعلم العلم واعمل ما استطعت به.... لا يلهينك عنه اللهو والجدل
فنعوذ بالله من علم لا يورث عملاً .
==========================
ثانياً : وجوب العمل بالقرآن الكريم
"""""""""""""""""""""
إن الهدف الأسمى ، والغاية العظمى ، من إنزال القرآن الكريم هو العمل به ، واتباع أوامره ، ولذا فقد ورد الأمر في كتاب الله بوجوب العمل به في مواضع عدة من كتاب الله - جل وعلا - منها.
الدليل الأول:
قال تعالى : {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} (106) سورة الأنعام
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( يقول تعالى آمراً رسولهصلى الله عليه وسلم ولمن اتبع طريقته : {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} أي: اقتد به، واقتف أثره، واعمل به، فإن ما أوحي إليك من هو الحق الذي لا مرية فيه، لأنه لا إله إلا هو) (تفسير ابن كثير (2/169) .).
قال الإمام القرطبي – رحمه الله - : (قوله تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ}يعني القرآن ، أي : لا تشغل قلبك وخاطرك بهم ، بل اشتغل بعبادة الله) (تفسير القرطبي (7/55) .) .
الدليل الثاني:
قال تعالى في سورة الأعراف : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} (3) سورة الأعراف.
قال القرطبي – رحمه الله - : قولـه تعالى : {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} يعني الكتاب والسنة . قال الله تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } (7) سورة الحشر.
وقالت فرقة : هذا أمر يعم النبي صلى الله عليه وسلم وأمته. والظاهر أنه أمر لجميع الناس دونه. أي: اتبعوا ملة الإسلام والقرآن، وأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، وامتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه. ودلت الآية على ترك اتباع الآراء مع وجود النص (تفسير القرطبي (7/145) .).
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : ( أي : اقتفوا آثار النبي صلى الله عليه وسلم الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه ،{وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ} أي : لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول صلى الله عليه وسلم إلى غيره ، فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره)( تفسير ابن كثير (2/269) .).
الدليل الثالث:
وقال تعالى : {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} (109) سورة يونس
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - :
وقولـه: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ} أي: تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك، واصبر على مخالفة من خالفك من الناس. {حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ} أي: يفتح بينك وبينهم. {وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} أي: خير الفاتحين بعدله ،وحكمته (تفسير ابن كثير (2/571) .).
الدليل الرابع:
قال تعالى: {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} (55) سورة الزمر .
قال الإمام القرطبي - رحمه الله -
(... { أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ} هو القرآن وكله حسن، والمعنى ما قال الحسن: التزموا طاعته، واجتنبوا معصيته. وقال السدي: الحسن ما أمر الله به في كتابه. وقال ابن زيد: يعني المحكمات ، وكلوا علم المتشابه إلى عالمه)( تفسير القرطبي (15/236) .).
الخلاصة:
مما سبق من الآيات وغيرها كثير ، يدل دلالة واضحة على وجوب اتباع القرآن والعمل به، وهي إما آيات صريحة جاءت بفعل الأمر (اتبعوا) وهو دال على الوجوب بلفظه، وإما بأمر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، باتباع ما أوحي إليه وهو القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكما هو معلوم أن الأمر للنبي أمر لأمته مالم يأت تخصيص له صلى الله عليه وسلم .
فتأمل - أخي الحبيب - أين نحن من العمل بالقرآن في حياتنا وواقعنا؟ فهل من توبة صادقة وعودة محققة إلى مصدر العز والشرف؟ حتى نفوز بالسعادة في الدارين، قال تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} (123) سورة طـه.
=========================
ثالثاً: الترغيب في العمل بالقرآن الكريم
""""""""""""""""""""""""
لقد ورد في فضل العاملين بالقرآن الكريم ، المتبعين له ، المتمسكين بهديه ، كثير من الفضائل بعضها في الدنيا ، وبعضها في الآخرة ومن ذلك :
1- العمل بالقرآن الكريم سبب للهداية في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} (18) سورة الزمر.
قال عبدالرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه - رحمهم الله – {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا ...} (17) سورة الزمر
نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي - رضي الله عنهم - والصحيح أنها شاملة لهم ولغيرهم ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة الرحمن فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
ثم قال عز وجل : {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...} أي : يفهمونه ويعملون بما فيه { أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ }
أي : المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والاخرة .( تفسير ابن كثير (4/53) .)
قال ابن عباس : ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة .
وقال: من قرأ القرآن واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه الله يوم القيامة سوء الحساب .
2- العمل بالقرآن سبب للفلاح في الدنيا والآخرة .
قال تعالى : {...فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (157) سورة الأعراف.
قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - : وقوله : {وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ}
أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلغاً إلى الناس{أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} أي في الدنيا والآخرة .
روى الدارمي بسنده عن أبي موسى - رضي الله عنه - :
( إن هذا القرآن كائن عليكم وزرا ، اتبعوا هذا القرآن ، ولا يتبعنكم القرآن ، فإن من تبع القرآن يهبط به في رياض الجنة ) (سنن الدارمي ج2 ص 526 ح3328 .).
3- العمل بالقرآن سبب للرحمة في الدنيا والآخرة :
قال الله تعالى : {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (155) سورة الأنعام.
قال الإمام الطبري - رحمه الله - :
(يعني جل ثناؤه بقولـه: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} وهذا القرآن الذي أنزلناه إلى نبينا محمد - {فَاتَّبِعُوهُ} يقول: فاجعلوه إماماً تتبعونه وتعملون بما فيه أيها الناس قال تعالى:{وَاتَّقُواْ} يقول: واحذروا الله في أنفسكم أن تضيعوا العمل بما فيه وتتعدوا حدوده وتستحلوا محارمه … وقولـه: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يقول: لترحموا فتنجوا من عذاب الله وأليم عقابه).( تفسير الطبري (8/92) طبعة دار الفكر .)
قال الإمام ابن كثير - رحمه الله - :
(يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره ، والعمل به ، والدعوة إليه ، ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين ) .( تفسير ابن كثير (2/280) .)
قلنا: لا يخفى أن ( لعل ) محققة الوقوع لأنها من الله ، فالرحمة في الدنيا والآخرة لمن اتبع القرآن وعمل به.
4- العمل بالقرآن سبب للشفاعة في الآخرة :
عن النواس بن سمعان الكلبي قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " يؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به ، تقدمه سورة البقرة وآل عمران "وضرب لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمثال ما نسيتهن بعد قال : " كأنهما غمامتان أو ظلتان سوداوان بينهما شرق . أو كأنهما حزقان (حزقان : جماعتان، الحزق والحزيقة الجماعة من كل شيء . ابن الأثير في النهاية (1/364) دار الكتب العلمية.) من طير صواف تحاجان عن صاحبهما "(رواه مسلم كتاب الصلاة باب فضل سورة البقرة ح 1843 (1338) ، الترمذي في فضائل القرآن (2883) باب ما جاء في سورة آل عمران ج8 ص 161 ، مسند أحمد (16979) .). فهذا الحديث يبين أن العاملين بالقرآن في الدنيا يشفع لهم القرآن يوم القيامة .
5- العمل بالقرآن سبب لتكفير الذنوب وإصلاح البال :
قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} (2) سورة محمد .
قال الإمام القرطبي - رحمه الله - : { وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ}لم يخالفوه في شيء ، قال سفيان الثوري : {وَهُوَ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ}يريد أن إيمانهم هو الحق من ربهم ، وقيل : أي أن القرآن هو الحق من ربهم ، نسخ به ما قبله .
{كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} أي : ما مضى من سيئاتهم قبل الإيمان. {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي : شأنهم، عن مجاهد وغيره. وقال قتادة: حالهم. وابن عباس : أمورهم. والثلاثة متقاربة وهي متأولة على إصلاح ما تعلق بدنياهم . وحكى النقاش أن المعنى أصلح نياتهم ... وهو على هذا التأويل محمول على صلاح دينهم ) .( تفسير القرطبي (16/191) .)
قال الإمام الشنقيطي - رحمه الله - : (أي غفر لهم ذنوبهم ، وتجاوز لهم عن أعمالهم السيئة {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} أي: أصلح لهم شأنهم وحالهم إصلاحاً لا فساد معه)( أضواء البيان (7/245) .)
قال الإمام الطبري - رحمه الله - :{وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} : وأصلح شأنهم وحالهم في الدنيا عند أوليائه ، وفي الآخرة أن أورثهم نعيم الأبد والخلود الدائم في جنانه .( تفسير الطبري (26/39) طبعة دار الفكر .)
هذه هي الثمرات الزكية والفضائل المرضية ، وحسن الجزاء في الدنيا والآخرة للعاملين بالقرآن الكريم ، المتمسكين بأوامره ، فهل من مشمر عن ساعد الجد لنيل تلك الدرجات ، والفوز برضا رب البريات .
===========================
رابعاً : الترهيب من هجر العمل بالقرآن الكريم
""""""""""""""""""""""""""""""
يدور القرآن الكريم بين الترغيب والترهيب ليصل العبد بذلك إلى الله رب العالمين {... إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (90) سورة الأنبياء.
فكما ورد الترغيب في العمل بالقرآن الكريم ، ورد كذلك الوعيد الشديد والتهديد الأكيد في الدنيا والآخرة لمن ترك العمل بالقرآن الكريم ، فلا يحل حلاله ، ولا يحرم حرامه ، ولا يأتمر بأمره ، ولا ينته عن نهيه ، فمن ذلك أن :
1- هاجر العمل بالقرآن الكريم له مثل السوء :
قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (5) سورة الجمعة.
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله- : ( فقاس من حملة كتابه - سبحانه - ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ، ثم خالف ذلك ، ولم يحمله إلا على ظهر قلب، فقراءته بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ، ولا تحكيم له وعمل بموجبه ، كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها ، وحظه منها حمله على ظهره ليس إلا ، فحظه من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره .
فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى لمن حمل القرآن فترك العمل به ، ولم يؤد حقه ، ولم يرعه حق رعايته ) (إعلام الموقعين (1/150) طبعة دار الحديث .).
2- هاجر العمل بالقرآن الكريم يعذب في قبره إلى قيام الساعة :
روى البخاري من حديث سمرة بن جندب رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم وفيها :"فانطلقنا حتى أتينا على رجل مضطجع على قفاه، ورجل قائم على رأسه بفهر أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فإذا ضربه تدهده الحجر، فانطلق إليه ليأخذه فلا يرجع إلى هذا حتى يلتئم رأسه، وعاد رأسه كما هو، فعاد إليه فضربه، قلت: (من هذا ؟) قالا: انطلق".
وفي آخر الحديث:"والذي رأيته يُشدخ رأسه فرجل علمه الله القرآن، فنام عنه بالليل ولم يعمل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة " (رواه البخاري كتاب الجنائز (3/296) .) فانتبه أيها القارئ العزيز.
3- هاجر العمل بالقرآن الكريم وقود النار يوم القيامة :
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" يظهر الإسلام حتى تختلف التجار في البحر ، وحتى تخوض الخيل في سبيل الله ، ثم يظهر قوم يقرءون القرآن ، يقولون : مَنْ أقرأ منا ؟ مَنْ أعلم منا ، ومًنْ أفقه منا ؟ " ثم قال لأصحابه : " هل في أولئك من خير ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " أولئك منكم من هذه الأمة ، وأولئك هم وقود النار "(( حديث حسن ) . رواه الطبراني في الأوسط ، والبزار بإسناد لا بأس به ، ورواه أبويعلى والطبراني أيضاً من حديث العباس بن عبدالمطلب . وقال الألباني ( حسن ) انظر صحيح الترغيب والترهيب ص (52) .).
4- هجر العمل بالقرآن الكريم سبب من أسباب الفتنة وعلامة من علامات الساعة:
عن علقمة عن عبدالله قال : ( كيف أنتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير ويربو فيها الصغير ، إذا ترك منها شيء قيل تركت السنة . قالوا : ومتى ذلك ؟ قال : إذا ذهبت علماؤكم وكثرت جهلاؤكم ، وكثرت قراؤكم وقلت فقاؤكم ، وكثرت أمراؤكم ، وقلت أمناؤكم ، والتمست الدنيا بعمل الآخرة ، وتفقه لغير الدين )( رواه الدارمي (1/76) .) .
وكل ذلك حاصل في زماننا فإلى الله المشتكى ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم